الطفل الغاضب !
دخل
إليَّ بصحبة والديه طفل في مرحلة الطفولة المتوسطة فقد تخطى الثامنة من عمره ببضعة
أشهر، متوسط الطول، مقتضب الحاجبين، مع تجهم ثابت بالملامح، وإمتلاء بالخدين،
ولفت إنتباهي أمرا يحزنني كثيرا فقد برزت بطنه الصغيرة عن قوامه شبه الطبيعي منبأة
بوجود مانسميه بالكرش ! وحينما علقت على ذلك وبمشاعري الحزينة تجاه " الكرش
المبكر في الطفولة " ضحكت أمه وهمست خجلا أصله بيأكل كل حاجة بيلاقيها قدامه
!
حينما
سألته كيف حالك ؟ رد فورا بدون تردد بنفس الملامح العابسة الجامدة أنا الطفل الغاضب !
- ولماذا
أنت غاضب ياولدي ؟!
- أصل
الأولاد بيضايقوني
- ولماذا
يضايقونك أنت بالذات ؟!
- لأنهم
يسخرون مني !
وحينما غيرت إتجاه السؤال إلى الأم هذه المرة أجابتني ببساطة لأنه مختلف عنهم ! ، ثم استرسلت إبني ده كان ممتاز وهو صغير، وبدأ يقرأ مبكراً جداً حتى قبل دخوله المدرسة ! ولكنه كان يميل إلى العزلة، والإنطواء، ولا يشارك إخوته اللعب معهم .
فنصحونا بالذهاب إلى ذلك التخصص " الكريه بالنسبة لي أنا د. إيهاب " فتم تشخيصه في سن الرابعة أنه مصاب بالتوحد ، ووصفوا له ذاك العقار " المشئوم !بالنسبة لي أنا دكتور إيهاب ، ذاك العقار مضاد الذهان مضاد الشيزوفرينيا والجنون !
هكذا بمنتهى البساطة يدمرون بما يكتبون طفلا
بريئا متميزا في الرابعة بقدرات لغوية ، وقرائية تفوق عمره ، وأقرانه ! والأهل -
للأسف الشديد -ضحايا غافلين عن حقائق الأمور
يطيعون ، وينفذون المطلوب بحذافيره لأنهم لايعلمون شيئا عن ذاك العدو المجهول
البغيض " التوحد " ، وطالما المتخصصون قالوا ذلك فسمعا ، وطاعة دون أي
محاولة للتفكير، والمناقشة لأن أحدا لم يعلمهم " إعرف عدوك " !
ولماذا
إذا تم تشخيصه بالتوحد ، وهو ذكي ، ويتكلم ؟! لأن طريقته في الكلام ، والحوار،
وإهتماماته بما يدور حوله مختلفة ، وكل ذلك مقترنا ببعض السلوكيات غير المألوفة في
هذا السن، وسرعة الغضب التي تميل إلى حدة الإنفعال في كثير من الأحيان ، وعليه
فقد تم تشخيصه بالتوحد المتميز " الناطق ذو القدرات القرائية العالية مبكراً
" إذا فهو ذاك الذي كان يطلق عليه سابقا " متلازمة أسبرجر " .
- أف لكم
، ولما تتوهمون ، وتتصدرون المشاهد المتكررة في كل الأنحاء بأنكم وحدكم ذوي العلم، وأنتم من تملكون مفاتيح التشخيص المؤكد ، والعلاج !
للأسف
الشديد إستمرت رحلة العلاج الدوائي الملعون منذ ذلك الحين حتي لحظتنا تلك ، والأهل
لم يجدوا تغيرا ملحوظا يذكر سوى الشراهة ، وزيادة الوزن، وبروز الكرش، وجاءت
كورونا المشئومة لتزيد الطينة بلة بالتقيد بحدود المنزل، وعدم ممارسة أية أنشطة
بدنية ، أو إجتماعية !
إستمر
حواري مع الطفل لأكثر من نصف ساعة ، وهو يكرر من آن لآخر ما أنا قلت لك " أنا
الطفل الغاضب " ، وخلاف بعض الردود الخارجة عن السياق لم ألاحظ على الطفل
المسكين أية ملاحظات سوى العبوس المستمر بوجه جامد ، ونبرة صوت على وتيرة واحدة ،
وعدم المبادرة بالتحدث ، والنقاش !
- في
نهاية اللقاء سألني الوالدان ما رأيك ، وتقديرك التشخيصي للحالة قلت لهم عذرا فأنا
الطبيب الغاضب !
- بالفعل
أنا غاضب للغاية من هذه المهزلة المهنية اللا أخلاقية في التعامل مع قضايا هذه
الشريحة -من الأطفال الملائكة الأبرياء - تشخيصيا ، وعلاجيا !
- ولماذا
لايكون بالفعل من بين من يطلق عليهم " أسبرجر " يا دكتور
- للأسف
الشديد جئتم إليَّ متأخرين بعد أن جاء إليَّ هذا الطفل البريئ متحورا ، ومتحولا
كيميائيا ، وقت تم العبث الهزلي بالناقلات العصبية بمخه في طفولته المبكرة ،
واستمر هذا التدمير الممنهج حتى الحين فكيف لي أن أعطيكم تشخيصا دقيقا بعد أكثر
من أربعة سنوات من اللا تشخيص، واللا علاج !
- وأشحت
بوجهي بعيدا عن نظراتهم الحائرة السائلة عن الوضع الراهن ، والمستقبلي ؟!
- إبتسمت
في وجه الطفل البريئ الذي ابتسم أخيرا
مودعا ، وأنا مثلك يا طفلي َّ الحبيب صرت الطبيب الغاضب !