مأساة التشخيص الخاطئ ومضادات الذهان على الأطفال
أخر تحديث 16 يونيو 2025
في إحدى ليالي عيادته، استقبل الأستاذ الدكتور إيهاب رجاء، أستاذ الوراثة الإكلينيكية واستشاري المخ والأعصاب للأطفال بالمركز القومي للبحوث، طفلاً في الثامنة من عمره. طفل بوجه عابس، حاجبين مقتضبين، وبطن بارزة بشكل محزن. سأله الدكتور: "كيف حالك؟" فأجابه الطفل فوراً بملامحه الجامدة: "أنا الطفل الغاضب!"
هذه الكلمات البسيطة كانت مفتاحاً لقصة مؤلمة، تكشف عن جانب مظلم في التعامل مع أطفالنا الأبرياء، وكيف يمكن لبعض التشخيصات والأدوية الخاطئة أن تدمر مستقبلهم وتطمس براءتهم. إنها يومية تصرخ في وجه التسرع في تشخيص التوحد ووصف مضادات الذهان للأطفال.
الكرش المبكر والغضب: علامات تحكي قصة
لفت انتباه الدكتور إيهاب بروز بطن الطفل، التي وصفها بـ"الكرش المبكر في الطفولة"، وهو ما علقت عليه الأم بخجل: "أصله بيأكل كل حاجة بيلاقيها قدامه!" هذا الاعتراف البسيط يحمل في طياته دلالات عميقة، خاصة وأن المقال يكشف لاحقاً ارتباط هذه الشراهة بأحد الأدوية الموصوفة.
وعندما سأل الدكتور الطفل عن سبب غضبه، أجاب ببساطة: "أصل الأولاد بيضايقوني... لأنهم يسخرون مني!" هذا الغضب والسخرية يكشفان عن عزلة يعيشها الطفل، وربما عن تأثير سلوكياته التي أصبحت مختلفة بعد التدخل الدوائي.
"التوحد المتميز" والعقار "المشؤوم": رحلة تدمير ممنهج
تحول الحوار إلى الأم، التي كشفت عن تاريخ الطفل: "ابني ده كان ممتاز وهو صغير، وبدأ يقرأ مبكراً جداً حتى قبل دخوله المدرسة! ولكنه كان يميل إلى العزلة، والإنطواء، ولا يشارك إخوته اللعب معهم." وهنا تكمن المفارقة المأساوية.
طفل يتمتع بقدرات لغوية وقرائية متقدمة، لكنه يميل إلى الانطواء، وهي سمات قد تكون مؤشراً على ذكاء عالٍ أو نمط شخصية معين، وليس بالضرورة اضطراباً يستدعي التدخل الدوائي.
"فنصحونا بالذهاب إلى ذلك التخصص 'الكريه بالنسبة لي أنا د. إيهاب' فتم تشخيصه في سن الرابعة أنه مصاب بالتوحد، ووصفوا له ذاك العقار 'المشؤوم! بالنسبة لي أنا دكتور إيهاب، ذاك العقار مضاد الذهان مضاد الشيزوفرينيا والجنون!'"
هنا يشتعل غضب الدكتور إيهاب، وهو يصف كيف "يدمرون بما يكتبون طفلاً بريئاً متميزاً في الرابعة بقدرات لغوية وقرائية تفوق عمره وأقرانه!" هذه الجملة ليست مجرد تعبير عن الغضب
بل هي إدانة صريحة لالتشخيص الخاطئ للتوحد ووصف مضادات الذهان للأطفال الذين قد لا يحتاجونها. إنها كارثة أن يوصف دواء بهذه الخطورة لطفل في عمر الزهور لمجرد بعض السلوكيات غير المألوفة.
جهل الأهل وغياب الوعي: ضحايا "العدو المجهول"
يشير الدكتور إيهاب إلى أن الأهل "ضحايا غافلين عن حقائق الأمور يطيعون وينفذون المطلوب بحذافيره لأنهم لا يعلمون شيئاً عن ذاك العدو المجهول البغيض 'التوحد'، وطالما المتخصصون قالوا ذلك فسمعاً وطاعة دون أي محاولة للتفكير والمناقشة لأن أحداً لم يعلمهم 'اعرف عدوك'!"
هذه الفقرة تسلط الضوء على أهمية توعية الأهل بخصوصيات اضطراب طيف التوحد، وكيف أن جهلهم قد يدفعهم لتطبيق علاجات قد تكون ضارة. فالحماس المفرط في التزام الأهل بالوصفات الطبية، دون بحث أو تساؤل، يمكن أن يكون له عواقب وخيمة.
ويوضح الدكتور إيهاب أن تشخيص الطفل بالتوحد المتميز (أو متلازمة أسبرجر سابقاً)، جاء بسبب "طريقته في الكلام والحوار، واهتماماته بما يدور حوله مختلفة، وكل ذلك مقترناً ببعض السلوكيات غير المألوفة في هذا السن، وسرعة الغضب التي تميل إلى حدة الانفعال في كثير من الأحيان.
" هذه السمات، وإن كانت تندرج ضمن طيف التوحد، إلا أن وصف مضادات الذهان في سن مبكرة وبشكل مستمر يمثل خطأً طبياً فادحاً، خاصة مع وجود قدرات لغوية وقرائية عالية.
العواقب والمأساة: الطبيب الغاضب
"للأسف الشديد استمرت رحلة العلاج الدوائي الملعون منذ ذلك الحين حتى لحظتنا تلك، والأهل لم يجدوا تغيراً ملحوظاً يذكر سوى الشراهة وزيادة الوزن وبروز الكرش، وجاءت كورونا المشؤومة لتزيد الطينة بلة بالتقيد بحدود المنزل وعدم ممارسة أية أنشطة بدنية أو اجتماعية!"
هنا تتضح الصورة القاتمة للتدخل الدوائي غير المدروس. فبدلاً من تحسن الحالة، تفاقمت الأعراض الجانبية. الشراهة والسمنة، التي كانت ملاحظة في بداية الزيارة، هي نتيجة مباشرة للعقار المشؤوم، وتضاف إليها قيود جائحة كورونا لتزيد من معاناة الطفل.
استمر حوار الدكتور إيهاب مع الطفل لأكثر من نصف ساعة، والطفل يكرر: "ما أنا قلت لك 'أنا الطفل الغاضب'". هذا التكرار ليس مجرد عبارة، بل هو صدى للمعاناة الداخلية للطفل الذي لم يجد من يفهم غضبه الحقيقي أو يقدم له حلاً فعالاً.
في نهاية اللقاء، يسأل الوالدان عن رأي الدكتور إيهاب التشخيصي، فيجيب بمرارة: "عذراً فأنا الطبيب الغاضب!"
غضبه ليس شخصياً، بل هو غضب مهني وأخلاقي تجاه "هذه المهزلة المهنية اللا أخلاقية في التعامل مع قضايا هذه الشريحة - من الأطفال الملائكة الأبرياء - تشخيصياً وعلاجياً!"
وعندما يسأله الوالدان: "ولماذا لا يكون بالفعل من بين من يطلق عليهم 'أسبرجر' يا دكتور؟"، تأتي الإجابة قاسية ولكن صادقة: "للأسف الشديد جئتم إليَّ متأخرين بعد أن جاء إليَّ هذا الطفل البريء متحوراً ومتحولاً كيميائياً، وقد تم العبث الهزلي بالناقلات العصبية بمخه في طفولته المبكرة، واستمر هذا التدمير الممنهج حتى الحين، فكيف لي أن أعطيكم تشخيصاً دقيقاً بعد أكثر من أربعة سنوات من اللا تشخيص واللا علاج!"
هذه الكلمات تلخص مأساة حقيقية. فالعبث بالناقلات العصبية لطفل في عمر مبكر يمكن أن يغير من مساره النمائي بشكل لا رجعة فيه، مما يجعل التشخيص والعلاج اللاحقين أكثر صعوبة وتعقيداً.
في النهاية، يبتسم الدكتور إيهاب في وجه الطفل الذي ابتسم أخيراً مودعاً، قائلاً: "وأنا مثلك يا طفلي الحبيب صرت الطبيب الغاضب!" هي لحظة صادقة تجمع بين غضب الطبيب على المهزلة الطبية، وتضامنه العميق مع براءة الطفل الضائعة.
دعوة إلى الوعي والمسؤولية: حماية أطفالنا
هذه اليومية ليست مجرد قصة، بل هي نداء عاجل لجميع الأطراف المعنية بصحة الطفل:
للأطباء:
مراجعة أخلاقيات المهنة، والتأني في تشخيص التوحد، والابتعاد عن وصف مضادات الذهان للأطفال إلا في أضيق الحدود وبعد استنفاذ كل السبل الأخرى. التأكيد على أهمية الفهم الشامل لحالة الطفل قبل أي تدخل دوائي.
للأهل: التوعية بأهمية "معرفة العدو" قبل الموافقة على العلاج. البحث عن آراء طبية متعددة، والسؤال عن البدائل العلاجية غير الدوائية، مثل العلاج السلوكي والنفسي والتغذوي. لا تترددوا في الاستفسار عن الآثار الجانبية طويلة المدى للأدوية.
للمنظومة الصحية: ضرورة وضع بروتوكولات واضحة وصارمة لتشخيص وعلاج اضطرابات النمو العصبي لدى الأطفال، وتوفير برامج تدريبية متخصصة للأطباء لضمان أعلى مستويات الكودة المهنية.
لنتعاون جميعاً لمنع المزيد من "الأطفال الغاضبين" بسبب أخطاء يمكن تجنبها، ولنعمل على حماية براءة أجيالنا القادمة من "السموم" التي تدمر بدلاً من أن تشفي.