من يوميات العيادة (11) أنا الطفل الغاضب !
دخل
إليَّ بصحبة والديه طفل في مرحلة الطفولة المتوسطة فقد تخطى الثامنة من عمره ببضعة
أشهر ، متوسط الطول ، مقتضب الحاجبين ، مع تجهم ثابت بالملامح ، وإمتلاء بالخدين ،
ولفت إنتباهي أمرا يحزنني كثيرا فقد برزت بطنه الصغيرة عن قوامه شبه الطبيعي منبأة
بوجود مانسميه بالكرش ! وحينما علقت على ذلك وبمشاعري الحزينة تجاه " الكرش
المبكر في الطفولة " ضحكت أمه وهمست خجلا أصله بيأكل كل حاجة بيلاقيها قدامه
!
حينما
سألته كيف حالك ؟ رد فورا بدون تردد بنفس الملامح العابسة الجامدة أنا الطفل الغاضب !
- ولماذا
أنت غاضب ياولدي ؟!
- أصل
الأولاد بيضايقوني
- ولماذا
يضايقونك أنت بالذات ؟!
- لأنهم
يسخرون مني !
وحينما
غيرت إتجاه السؤال إلى الأم هذه المرة أجابتني ببساطة لأنه مختلف عنهم ! ، ثم
استرسلت إبني ده كان ممتاز وهو صغير ، وبدأ يقرأ مبكراً جداً حتى قبل دخوله
المدرسة ! ولكنه كان يميل إلى العزلة ، والإنطواء ، ولا يشارك إخوته اللعب معهم .
فنصحونا بالذهاب إلى ذلك التخصص " الكريه
بالنسبة لي أنا د. إيهاب " فتم تشخيصه في سن الرابعة أنه مصاب بالتوحد ،
ووصفوا له ذاك العقار " المشئوم !بالنسبة لي أنا دكتور إيهاب ، ذاك العقار مضاد
الذهان مضاد الشيزوفرينيا والجنون !
هكذا بمنتهى البساطة يدمرون بما يكتبون طفلا
بريئا متميزا في الرابعة بقدرات لغوية ، وقرائية تفوق عمره ، وأقرانه ! والأهل -
للأسف الشديد -ضحايا غافلين عن حقائق الأمور
يطيعون ، وينفذون المطلوب بحذافيره لأنهم لايعلمون شيئا عن ذاك العدو المجهول
البغيض " التوحد " ، وطالما المتخصصون قالوا ذلك فسمعا ، وطاعة دون أي
محاولة للتفكير ، والمناقشة لأن أحدا لم يعلمهم " إعرف عدوك " !
ولماذا
إذا تم تشخيصه بالتوحد ، وهو ذكي ، ويتكلم ؟! لأن طريقته في الكلام ، والحوار ،
وإهتماماته بما يدور حوله مختلفة ، وكل ذلك مقترنا ببعض السلوكيات غير المألوفة في
هذا السن ، وسرعة الغضب التي تميل إلى حدة الإنفعال في كثير من الأحيان ، وعليه
فقد تم تشخيصه بالتوحد المتميز " الناطق ذو القدرات القرائية العالية مبكراً
" إذا فهو ذاك الذي كان يطلق عليه سابقا " متلازمة أسبرجر " .
- أف لكم
، ولما تتوهمون ، وتتصدرون المشاهد المتكررة في كل الأنحاء بأنكم وحدكم ذوي العلم
، وأنتم من تملكون مفاتيح التشخيص المؤكد ، والعلاج !
للأسف
الشديد إستمرت رحلة العلاج الدوائي الملعون منذ ذلك الحين حتي لحظتنا تلك ، والأهل
لم يجدوا تغيرا ملحوظا يذكر سوى الشراهة ، وزيادة الوزن ، وبروز الكرش ، وجاءت
كورونا المشئومة لتزيد الطينة بلة بالتقيد بحدود المنزل ، وعدم ممارسة أية أنشطة
بدنية ، أو إجتماعية !
إستمر
حواري مع الطفل لأكثر من نصف ساعة ، وهو يكرر من آن لآخر ما أنا قلت لك " أنا
الطفل الغاضب " ، وخلاف بعض الردود الخارجة عن السياق لم ألاحظ على الطفل
المسكين أية ملاحظات سوى العبوس المستمر بوجه جامد ، ونبرة صوت على وتيرة واحدة ،
وعدم المبادرة بالتحدث ، والنقاش !
- في
نهاية اللقاء سألني الوالدان ما رأيك ، وتقديرك التشخيصي للحالة قلت لهم عذرا فأنا
الطبيب الغاضب !
- بالفعل
أنا غاضب للغاية من هذه المهزلة المهنية اللا أخلاقية في التعامل مع قضايا هذه
الشريحة -من الأطفال الملائكة الأبرياء - تشخيصيا ، وعلاجيا !
- ولماذا
لايكون بالفعل من بين من يطلق عليهم " أسبرجر " يا دكتور
- للأسف
الشديد جئتم إليَّ متأخرين بعد أن جاء إليَّ هذا الطفل البريئ متحورا ، ومتحولا
كيميائيا ، وقت تم العبث الهزلي بالناقلات العصبية بمخه في طفولته المبكرة ،
واستمر هذا التدمير الممنهج حتى الحين فكيف لي أن أعطيكم تشخيصا دقيقا بعد أكثر
من أربعة سنوات من اللا تشخيص ، واللا علاج !
- وأشحت
بوجهي بعيدا عن نظراتهم الحائرة السائلة عن الوضع الراهن ، والمستقبلي ؟!
- إبتسمت
في وجه الطفل البريئ الذي ابتسم أخيرا
مودعا ، وأنا مثلك يا طفلي َّ الحبيب صرت الطبيب الغاضب !