recent
أخر الأخبار

أطفالنا في بلاد الغربة والتشخيص الخاطئ للتوحد

التوحد الكاذب يهدد مستقبل أطفالنا في الغربة: دراسة حالة وتحليل طبي

رسالة طبية وإنسانية إلى أبنائنا المصريين والعرب المقيمين بالخارج

أخر تحديث 18 يونيو 2025
أكتب إليكم اليوم بصفتي طبيبًا استشاريًا في الوراثة الإكلينيكية وأمراض المخ والأعصاب للأطفال، وبخبرة مهنية تمتد لأكثر من خمسة وعشرين عامًا في التعامل مع اضطرابات النمو لدى الأطفال
لأدق ناقوس الخطر حول قضية باتت تؤرقني كطبيب وإنسان في آنٍ واحد: ظاهرة التشخيص الخاطئ لما يسمى بـ "اضطراب طيف التوحد" لدى الأطفال العرب المهاجرين في الدول الغربية.
لقد لاحظت، ومن واقع ما أتابعه يوميًا من حالات واردة من مختلف دول أوروبا وأمريكا والخليج، أن هناك زيادة مبالغًا فيها في نسب تشخيص التوحد، وصلت في بعض الإحصائيات إلى ما بين 2% إلى 2.7% من الأطفال عالميًا. 

طفلة صغيرة تغطي وجهها بيديها وهي تجلس حزينة بجوار والدتها القلقة، تعبيرًا عن معاناة نفسية في بلاد المهجر.

وهذا الرقم — بعيدًا عن كونه إحصاءً مجردًا — يحمل في طياته كارثة إنسانية وطبية حقيقية، تتسبب في إقصاء آلاف الأطفال عن فرصهم الطبيعية في التعليم والاندماج المجتمعي، بل وتضعهم تحت مظلة الإعاقة مدى الحياة… أحيانًا بلا وجه حق.
وهنا تبدأ معاناتنا، نحن الأطباء وأولياء الأمور، في محاولة إعادة الأمور إلى نصابها، والبحث عن التشخيص الدقيق القائم على الفهم العميق لحالة الطفل وظروفه، لا على التصنيفات الجاهزة.

نموذج واقعي: عندما يتحول التشخيص الخاطئ إلى كابوس دائم!

من بين عشرات الحالات التي شاهدتها على مدار سنوات، كانت قصة الطفلة "س" واحدة من أكثر القصص ألمًا وظلمًا. هي قصة حقيقية لطفلة مصرية لم تتجاوز عامين وبضعة أشهر، رافقتني تفاصيلها شهورًا طويلة، ولم تفارقني حتى الآن.
سافرت الأسرة إلى إحدى الدول الأوروبية بحثًا عن مستقبل أفضل، مثل آلاف الأسر العربية في بلاد المهجر. لكن القدر كان يحمل للطفلة الصغيرة مفاجأة موجعة؛ تعرضت لحادث مؤلم تطلب دخولها المستشفى لمدة شهر كامل. 
وخلال هذه الفترة، وجدت نفسها في بيئة غريبة، بلغة أجنبية، وأصوات مخيفة، وألم جسدي ومعنوي لا يُحتمل. كان يتم إعطاؤها مهدئات ومخدرًا كلما احتاجوا لتغيير الضمادات على جروحها… تصوروا الرعب الذي عاشته تلك الطفلة البريئة يومًا بعد يوم!
خرجت الطفلة من المستشفى وهي فاقدة القدرة على الكلام، لم تعد تتفاعل مع من حولها، ولم تعد تلعب بألعابها كما كانت. 
توقف تطورها النفسي والسلوكي، وكأن الزمن تجمد عند لحظة الحادث. وما لبثت الأم المكلومة أن لجأت إلى بعض المختصين في تلك البلاد، لتتلقى الصدمة الثانية: تم تشخيص الطفلة بأنها مصابة بـ اضطراب طيف التوحد!
لكن الكارثة لم تتوقف عند هذا الحد…

القوانين الغربية التي تحكم على الطفل بالإقصاء مدى الحياة

القوانين في بعض الدول الغربية — رغم ما تُروّج له من حقوق الطفل وكرامة الإنسان — تحوّل هذا التشخيص إلى وصمة دائمة، تجعل الطفل محروماً من أبسط حقوقه:
  • لا حضانة طبيعية
  • لا مدرسة تقليدية
  • لا تعليم جامعي عادي
  • لا وظيفة حرة مستقبلاً
بل يتم تصنيف الطفل ضمن ذوي الاحتياجات الخاصة، ويُجبر على الاندماج في برامج خاصة، بعيدة كل البعد عن التقييم الفردي لحالته أو استجابته للعلاج.
هنا أدركت الأم أن مستقبل طفلتها ينهار أمام عينيها… فقررت الهروب من هذا الكابوس، وعادت إلى مصر بحثًا عن الحقيقة.

التشخيص الدقيق في الوطن الأم… يكشف الحقيقة الصادمة

في أول لقاء جمعني بتلك الطفلة داخل عيادتي بالقاهرة، لم أجد فيها ما يشير إلى وجود توحد بالمعنى الإكلينيكي الدقيق، وإنما وجدت أمامي حالة واضحة من "التأخر النمائي الشامل" — أي أن القدرات الحركية، واللغوية، والمعرفية للطفلة كانت أبطأ من المعدلات الطبيعية لعمرها الزمني، وهو أمر شائع ومفهوم في سياق:
  • التعرض لحادث صادم ومؤلم في عمر مبكر
  • غربة البيئة واللغة وعدم الفهم
  • غياب الحنان والأمان في المستشفى
  • فصل الطفل عن الروتين العاطفي الطبيعي، خاصة علاقة الأم والطفل
ولكن لم أكتفِ بذلك…

التحليل المفصلي: المعادن الثقيلة والتأثيرات العصبية

طلبت فحصًا خاصًا للكشف عن التسمم المزمن بالمعادن الثقيلة، وهو فحص غالبًا ما يُغفل في الدول الغربية!
وكما توقعت، أظهرت النتائج وجود نسب مرتفعة من عناصر مثل:
  • الرصاص: يؤثر بشدة على الذكاء، والانتباه، واللغة المسموعة.
  • معادن أخرى تسبب خللاً في امتصاص الحديد، مما يسبب أنيميا كاذبة تؤثر على الإدراك والذاكرة.
وبعد ذكر كل هذه التفاصيل الدقيقة في تقريري الطبي، عادت الأم بتقرير متكامل إلى بلد الإقامة… لعلهم يتراجعون!
لكن للأسف، جاء الرد الصادم الثالث…

الصدمة الثالثة: إصرار على التشخيص الخاطئ… وتجاهل للأدلة العلمية!

رغم أن تقرير الطبيب المصري الاستشاري — القائم على تقييم إكلينيكي دقيق وتحاليل معملية متقدمة — أوضح بجلاء أن الطفلة "س" لا تعاني من اضطراب طيف التوحد، بل من تأخر نمائي مرتبط بعوامل بيئية ونفسية وعضوية، فإن الجهات الطبية في الدولة الأوروبية رفضت الاعتراف بهذا التقرير!
كان الرد الرسمي باردًا وصادمًا: "نحن نُصر على التشخيص الأول، ونلتزم بالبروتوكول المحلي، وسنستمر في تصنيف الطفلة ضمن حالات التوحد. ويجب إدماجها في حضانة خاصة مع باقي الأطفال المصنفين ضمن ذوي اضطراب طيف التوحد."
هل تتخيلون حجم الظلم؟ هل تدركون ماذا يعني أن يُغلق باب الحياة الطبيعية أمام طفل، فقط لأن جهة طبية ما قررت — دون تعمق أو تحقيق شامل — أنه ينتمي لفئة خاصة لا يستطيع مغادرتها أبدًا؟
هذه ليست حالة فردية… بل نموذج متكرر في بلاد المهجر!
للأسف، ما جرى مع الطفلة "س" ليس استثناءً. بل هو وجه من وجوه معاناة آلاف الأطفال العرب في المهجر، والذين يتعرضون لتشخيصات متسرعة، وأحيانًا غير علمية، تنعكس بشكل مأساوي على حياتهم بالكامل.

لماذا تنتشر التشخيصات الخاطئة للتوحد في بلاد الغربة؟

في ضوء تجربتي الطويلة، يمكن تلخيص أسباب تفشي ظاهرة التشخيص الخاطئ لاضطراب طيف التوحد في عدة نقاط:

1. الاعتماد على استبيانات سريعة بدلاً من التقييم الإكلينيكي المتكامل
في الكثير من الدول، يُعتمد على إجابات الأهل أو الملاحظات العامة دون إجراء تقييم سريري شامل يشمل التفاعل المباشر مع الطفل وملاحظة استجاباته الاجتماعية والسلوكية.

2. غياب التشخيص الفارق
غالبًا لا يتم التمييز بين التوحد الحقيقي وحالات أخرى مثل:
  • اضطراب ما بعد الصدمة
  • التأخر النمائي الشامل
  • الاضطرابات اللغوية النمائية
  • الانعزال الناتج عن صدمة نفسية أو غربة ثقافية
3. الجهل بالعوامل البيئية والثقافية المؤثرة على الطفل العربي المهاجر
طفل عربي نشأ في منزل يتحدث العربية، ثم وجد نفسه فجأة في بيئة ناطقة بلغة أخرى، مع عادات اجتماعية مختلفة تمامًا، من الطبيعي أن تظهر عليه علامات اضطراب أو عزلة مؤقتة. ولكنها ليست توحدًا!

4. غياب فحوص السموم والمعادن الثقيلة عن بروتوكولات التشخيص
وهذا ما يُغفل في كثير من النظم الطبية الغربية، رغم أن التسمم بالرصاص والزئبق قد يُحدث أعراضًا تُشبه التوحد من حيث التأثير على الكلام والتركيز والسلوك.

التشخيص الإكلينيكي الدقيق كما نمارسه في مصر: العلم أولًا… ثم القرار

في مصر، وعبر خبرة شخصية تمتد لأكثر من ربع قرن، نعتمد منهجًا دقيقًا قائمًا على:
  1. التقييم السريري المباشر مع الطفل
  2. التحدث مع الأهل بلغة بسيطة لفهم خلفيات الحالة
  3. استخدام أدوات تشخيص معتمدة، لكن لا تُستخدم كبديل عن الفحص الإكلينيكي
  4. طلب تحاليل متقدمة للكشف عن المعادن، الغدة الدرقية، حالة الجهاز العصبي، والنواقل الكيميائية
كل هذه الإجراءات هدفها حماية الطفل من وصمة غير عادلة، وتقديم تدخل حقيقي في الوقت المناسب.

خاتمة: لا تستسلموا… فالحقيقة أقوى من الظلم!

أبنائي وبناتي، أولياء الأمور الكرام في بلاد الغربة…
رسالتي إليكم اليوم ليست فقط رسالة طبية، لكنها أيضًا صرخة إنسانية من القلب.
أرجوكم، لا تنكسروا أمام تلك التشخيصات الجاهزة، ولا تسلموا رقاب أطفالكم لوصمة "طيف التوحد" دون فحص علمي دقيق، ولا تيأسوا حين تواجهون تعنت الأنظمة الطبية التي لا ترى في أطفالنا إلا أرقامًا ضمن قوائم التشخيصات الرسمية.
الطفل العربي في المهجر يختلف في خلفياته، في بيئته، في لغته، وحتى في طريقة تفاعله الاجتماعي، عن الطفل الغربي. ولهذا، فإن تسرّع التشخيص دون فهم السياق الكامل هو كارثة بحق الطفولة.
لا تجعلوا أطفالكم ضحايا لتسرع أو إهمال، فحياتهم النفسية والمعرفية والاجتماعية تبدأ من "تشخيص"… إما أن يكون منصفًا ومُنقذًا، أو جائرًا ومدمرًا.
  • ابحثوا عن الحقيقة، وعودوا بها إلى أطفالكم.
  • لا تستهينوا بأي عرض، لكن لا تسمحوا بظلم يُفرض عليهم للأبد.
  • وإذا احتجتم إلى رأي علمي صادق، فمصر ما زالت تحتضن خبرات طبية متجذرة… وأذرعنا مفتوحة دائمًا لأبنائنا في الداخل والخارج.
لكم مني، ومن قلبي، ومن علمي، كل المودة، والاحترام، والدعم.
د. إيهاب رجاء
أستاذ الوراثة الإكلينيكية واستشاري أمراض المخ والأعصاب للأطفال
المركز القومي للبحوث – مصر
google-playkhamsatmostaqltradent