أطفالنا في بلاد الغربة ، والتوحد الكاذب !

  

تشخيص التوحد

أطفالنا في بلاد الغربة ، والتوحد الكاذب !

رسالة إلى أبنائنا بالمهجر ، وخارج مصر السادة الأبناء الكرام … كل عام أنتم بخير أود تنبيه حضراتكم إلى أمر خطير ، وهام …لاحظت خلال الربع قرن الأخير من تاريخ ممارستي المهنية في مجال الإضطرابات النمائية ، ومن خلال خبرتي العملية الطويلة ، وتخصصي في الوراثة الإكلينيكية ، وأمراض المخ والأعصاب تحديدا أن هناك ضبابية شديدة في الرؤية ، ولبس ، وإختلاط شديد في دقة التشخيص ، والتشخيص الفارق في قضية الإضطرابات النمائية ، وعلى قمتها "إضطراب طيف التوحد "

أيها الكرام لاحظت مبالغة شديدة في تسجيل نسب الإصابة بالتوحد عالميا بحيث صارت تتراوح مابين 2-2.7% هذه النسبة مرتفعة جدا ، ولها دلالات ، وتداعيات خطيرة جدا !وأهمها عدم الإتاحة بالنسبة للخدمات الممكن تقديمها إلى هؤلاء الأطفال من حيث مراكز التأهيل المتخصصة ، وكذلك الكوادر من الإخصائيين المتميزين المهرة ، وذوي الخبرات المهنية الرفيعة ، والطويلة في هذا المجال ، ثم ندرة الحضانات ، والمدارس ذات الإمكانات لإستيعاب ، ودمج هذا العدد المتنامي المضطرد بصورة غير عادية !

في الحقيقة أود أن أوضح إلى حضراتكم كيفية زيادة النسبة بإضطراد بهذه السرعة المخيفة ؟! أولا التوحد ليس كينونة تشخيصية قائمة بذاتها !، ولكنه يعبر عن حالة من الخلل الوظيفي الشامل بالمخ ، وبالتالي يمكننا تعريفه إجرائيا بأنه زملة من الأعراض المتشابهة إلى حد كبير " فقدان القدرة على التواصل بشقيه اللفظي ، وغير اللفظي ، وبالتالي عدم القدرة على التفاعل الإجتماعي مع المحيطين المقربين ، وأولهم ، وأهمهم بالطبع هي الأم بحكم قربها الحميم ، واللصيق بالطفل منذ خروجه إلى الحياة ، والعرض الثاني محدودية القدرة على اللعب مثل النظراء الأقران بنفس طريقة لعبهم ، أو عدم الإهتمام بألعاب الطفولة المبكرة مثل الركض وراء الكرة ، أو البالونة ، أو محاولة قيادة دراجة ، أو سيارة تتحرك بالبدال مع عدم المقدرة على اللعب التخيلي ، أو الرمزي .

وهناك العديد من الأعراض الأخرى المصاحبة ، والإضطرابات المقترنة التي تتفاوت في الكم ، والشدة من طفل لآخر حسب نوعية الإصابة الدماغية ، وأسبابها ، ومن هنا أود لفت الأنظار أن التشخيص ليس بهذا الإسلوب العبثي غير المهني ، والمستهتر بمصير هذا الكم الرهيب من الأطفال . إذا الأمر ليس بهذه البساطة التي أراها هكذا في أغلب التشخيصات التي ترد إلي من بقاع عديدة من العالم العربي ، والغربي ! .

لقد صارت عملية التشخيص عملية جزافية ، ويدفع الأطفال ، وذويهم الثمن فادحا من أعمارهم ، ومستقبلهم ، ولعل هذا النموذج الصارخ الذي سوف أسوقه إليكم هو من أبشع الحالات ظلما ، وألما ويعطي صورة لما يعانيه الكثير منكم في بلاد الغربة بعد أن رحلوا من الوطن الأم بحثا عن حياة ، ومستوى معيشة أفضل .

 هذه الطفلة المسكينة " س" رحل أبوها إلى إحدى البلاد الأوروبية سعيا وراء الحلم السرابي بالمعيشة الأفضل ، وإذا بالرياح تأتي بما لاتشتهيه السفن بعد أن أوشكت أن ترسو على مرفأ العالم الجديد لكي تندمج فيه تاركة خلفها ميراث الأم بخيره ، وشره .

 تعرضت الطفلة ذات العامين ، وبضعة أشهر الى حادث مؤلم تسبب في دخولها المستشفى لمدة شهر ، وكانت تتعرض يوم بعد يوم لخبرة الفزع ، والألم ، والمكوث في بيئة المستشفى التي يتحدث كل أفرادها العاملين فيها بلغة تلك البلد الغربية !، ومن شدة الخوف ، والهلع كانوا يضطرون لإعطائها مخدرا حتى تتم عملية الغيار على الجروح ! هل أنتم متخيلين معي وطأة هذا الموقف الرهيب على تلك الطفلة الملاك البريئ ، والآثار السلبية المترتبة على ذلك الحادث القاسي .

لقد خرجت الطفلة من المستشفى فاقدة القدرة ، أو الرغبة في الكلام ، والتحدث مع الغير ، ولاحتى اللعب بألعابها التي كانت تحبها ، ومتعلقة بها من قبل ! إن التوصيف النفسي لمثل هذه الظاهرة السلبية يعرف بإسم " إضطراب ما بعد الصدمة " وهو أمر معروف ، ومتعارف عليه في الحالات المشابهة سواء للأطفال ، أو البالغين الكبار .

 ولكن كانت اللطمة الثانية الأكثر بشاعة ، وإيلاما أن تعرض الطفلة البريئة على المختصين فيتم تشخيصها على أنها مصابة " بإضطراب طيف التوحد" ! هكذا تلقت الأم المسكينة - في غربتها - الصدمة ، واللطمة الثانية بعد الحادث المؤلم !

 الصدمة ، واللطمة الثالثة …أبلغتني الأم الجريحة أن القوانين في تلك البلاد تلزم من تم تشخيصه بهذا الإضطراب الملعون أن يظل حبيس هذا الإقصاء المجتمعي الكامل مدى الحياة محروما من الحضانة ، أو المدارس ، أو الجامعة الطبيعية ، بل هو ما أكثر ألما ألاتتاح له فرصة العمل مثل الآخرين ، ولكن تحت مظلة أنه من ذوي الإحتياجات الخاصة .

 وبالتالي لايعمل إلا من خلال ماتتيحه قوانين الدولة كواحد من هؤلاء! أرأيتم حجم الظلم ، والكارثة الإنسانية التي سوف تقع على هذه الطفلة المسكينة ، وذويها مدى الحياة ، وإذا بحلم الحياة الكريمة ينقلب كابوسا مخيفا مفزعا لايمكن اليقظة منه أبدا .

 ما هذه البشاعة غير الإنسانية التي لا تتفق مع أبسط حقوق الطفل ، والإنسان في بلاد تتشدق - كذبا على غير الحقيقة ، والواقع - و تتغنى بشعارات جوفاء خادعة لايدرك حقيقتها إلا من عايشها على أرض الواقع تحت سماء الوهم ، والخيال الذي يناطح غيوم ، وسحابات تلك البلاد البعيدة كل البعد عن أحلام البسطاء السذج من شعوب الشرق الأوسط !

لقد إضطرت هذه الأم للنزول الطاريئ إلى مصر بحثا عن الحقيقة ! وحين إلتقيت الطفلة في العيادة لأول مرة ، وبعد عدة أشهر من مكوثها في المحافظة المصرية الأم لم ألحظ لديها علامات تشير إلى شبهة الإصابة بذلك الخلل الملعون ، وإنما كانت تعاني من أعراض " التأخر النمائي " والذي يعني ببساطة شديدة أن مهارات الطفلة " س" لا تتناسب مع عمرها زمنيا نتيجة ماتعرضت له في طفولتها ومهاراتها المبكرة جدا من غربة البيئة ، واللغة بعيدا عن البيئة الأم للمنشأ .

 ثم إصابتها بتلك الوقائع المؤلمة المحيطة بالحادث العارض ذي الأثر السلبي الممتد على إدراك الطفلة ، ومهارتها ، ولغتها الوليدة الأولى ، وحيث أن من أساسيات الفحوص الروتينية -التي أطلبها لكل الحالات الشبيهة من التأخر النمائي - فحص الكشف عن التسمم المزمن البطيئ بجرعات تراكمية صغيرة من المعادن الثقيلة .

 فقد تبين من الفحص وجود نسب غير طبيعية من تلك المعادن الخطيرة الأثر على وظائف المخ ، وكان من بينها عنصر الرصاص شديد الخطورة على الذكاء ، والمعالجة المركزية للغة المسموعة ، والإصابة بأنيميا تشبه نقص الحديد ، ولكنه ليس نقصا حقيقيا بل هو قصور الإرتباط بالحديد ليكون الهيموجلوبين فاعلا وظيفيا مما يؤثر على الإنتباه ، والإدراك ، والتذكر !.

وحينما ذكرت كل هذه الأمور في التقرير الطبي الذي عادت به الأم محاولة إقناع الجهات الطبية بأن الطبيب الإستشاري المصري فند تشخيص التوحد بناء على الأدلة المذكورة إذا بهم - مع تقديرهم غير الحقيقي - لصياغة التقرير ، وكفائة الطبيب المصري الذي ناظر الحالة ، وكتب التقرير إلا إنهم لايزالون يصرون على تشخيصهم هم بالتوحد ، ووجوب إيداعها في حضانة متخصصة مع أقرانها من الجنسيات الأخري ، ومن أبناء البلدة المصابين بالتوحد ، وأنها ستظل مصابة بها هكذا مدى الحياة .

 أرأيتم الكارثة الإنسانية ، وهذا الخطر الداهم المهدد لمصير ، ومستقبل تلك الطفلة البريئة ، وغيرها من آلاف الأطفال الضحايا ؟! وفي جعبتي الكثير ، والكثير من القصص المشابهة المؤلمة ! أرجوكم من أعماق القلب ألَّا تستسلموا أبدا لهذا العبث المهني ، ولايصيبنكم اليأس ، والإحباط ! العقل متفتح ، وآيادي الخير ممتدة لكم بزهور الأمل ، والتفاؤل …ترى كيف تستقبلونها ، وماذا أنتم فاعلون ؟؟!

 

google-playkhamsatmostaqltradent