د. إيهاب رجاء يطالب بـ "تخصص حديثي الولادة ذوي الحقن المجهري
في عالم يزداد فيه الأمل بفضل التطورات العلمية في مجال الإنجاب، وتحديدًا تقنيات الحقن المجهري، بات تحقيق حلم الأمومة والأبوة ممكناً للكثيرين ممن حرموا منه طبيعياً.
لكن، خلف الستار اللامع لهذه الإنجازات الطراحية، تكمن قصص أخرى أقل بريقاً، بل ومؤلمة. قصص تُروى في عيادات الأطباء المتخصصين، وتُعيد صياغة مفهوم "النجاح" في الإنجاب.
من قلب هذه القصص الواقعية والمؤثرة، يشاركنا الأستاذ الدكتور إيهاب رجاء، أستاذ الوراثة الإكلينيكية واستشاري المخ والأعصاب للأطفال بالمركز القومي للبحوث، فصولاً جديدة من "يوميات العيادة".
هذه اليوميات ليست مجرد سرد لحالات طبية، بل هي صرخة ضمير مهني في وجه تحديات غير متوقعة، ونداء عاجل لإعادة التفكير في رعاية فئة حساسة من أطفالنا: مواليد الحقن المجهري.
في هذا المقال، نتعمق في رحلة أسر واجهت، بعد سنوات من الانتظار والأمل، حقائق صادمة حول صحة أبنائها. فمن توأم ولد بعد عناء ليواجه إعاقة رباعية مركبة، إلى قصص أخرى لا تقل قسوة، يسلط الدكتور إيهاب الضوء على مضاعفات الحقن المجهري التي قد لا تكون في الحسبان
ويدعو إلى تبني تخصص طبي جديد لضمان الاكتشاف المبكر والعناية المتخصصة. لنتأمل معاً هذه الشهادات القوية التي تستدعي منا جميعاً، أطباءً وأهلاً ومجتمعاً، وقفة جادة ومسؤولية أكبر تجاه مستقبل أطفالنا.
قصة توأم الحقن المجهري: رحلة من الأمل إلى الإعاقة الرباعية المركبة والمعاناة المستمرة
يستهل الدكتور إيهاب يوميته بقصة زوجين زاراه بعد رحلة طويلة ومضنية للحصول على الحمل، حيث طرقا باب الحقن المجهري، وتم لهما ما أرادا بفضل الله. رزقا بتوأم، لكن سعادتهما لم تكتمل طويلاً؛ فبعد عشرة أيام قضياها في الحضانة، خرجا بسلام.
ومع مرور الأيام والشهور، بدأ الوالدان يلاحظان أمراً مقلقاً: "تيقنا من المولود الذكر لا يسمع بعد أن أتم عامه الأول، ولم يكن قد اكتسب المهارات الحركية الأولية فسعيا إلى التأهيل الحركي بالعلاج الطبيعي".
لم تتوقف معاناتهما عند هذا الحد. ففي رحلة البحث عن إجابات، قاما بزيارة أطباء السمعيات الذين أكدوا وجود إعاقة سمعية، رغم تأكيد سابق من أستاذ السمعيات بأن العصب السمعي سليم.
تضاربت الآراء بين من نصح بعملية زراعة القوقعة ومن حذر من عدم جدواها. في نهاية المطاف، استسلم الوالدان وأجريا عملية زراعة القوقعة، ليتلقيا صدمة أخرى غير سارة:
"الطفل شديد العصبية والتهيج من ملمس الجزء الخارجي من الجهاز على فروة الرأس، ويقوم بنزعه باستمرار، وهكذا لم يستفد الطفل من جهاز القوقعة، ولم تتطور حاسة السمع لديه مطلقاً بعد عامين أو أكثر من زراعة القوقعة!". هذا الفشل في العلاج أضاف عبئاً نفسياً ومادياً كبيراً على الأسرة.
تتفاقم المشكلة عندما يكشف الدكتور إيهاب عن قصة التشخيصات المتضاربة التي عانى منها الطفل: "بعد معاناة طويلة من تضارب التشخيصات حضر الوالدان بتقرير تشخيصي بأن حالة الطفل هي حالة متلازمة وراثية نادرة الانتشار
وبمراجعة السمات الكبرى لهذه المتلازمة وجدت عدم تطابق - إكلينيكياً - بين الأوصاف المذكورة في تقرير التحليل الجيني، وبين الواقع لحالة الطفل إكلينيكياً!". هذا التضارب ليس مجرد خطأ عابر، بل يعكس نقصاً في التنسيق والدقة التشخيصية، مما يترك الأهل في حيرة ويضيع سنوات ثمينة من عمر الطفل.
لم يكتفِ الأمر بذلك، بل اكتشف الدكتور إيهاب أن الطفل يعاني أيضاً من إعاقة بصرية واضحة، وهو ما أصاب الوالدين بصدمة، حيث لم يبلغهما أي من الأطباء السابقين بهذه الإعاقة الإضافية من ضعف البصر الشديد.
بل إن الأطباء السابقين حاولوا إقناع الوالدين بأن الطفل يرى حتى في الظلام، وأنكروا كل ما قاله الدكتور إيهاب عن وجود هذه الإعاقة. هذا الإغفال المتعمد أو غير المتعمد لعلامات حاسمة يزيد من حجم المأساة، ويشير إلى قصور في الفحص الشامل والدقيق.
بعد فحص شامل للطفل والاطلاع على صور الرنين المغناطيسي التي أظهرت إصابة بالغة في طبقة القشرة الرمادية بالمخ وقصور شديد في اكتمال نضج ألياف المادة البيضاء
صارح الدكتور إيهاب الوالدين بأن الحالة الراهنة للطفل هي إعاقة رباعية مركبة (ذهنية - حركية - سمعية بصرية). هذا التشخيص الصادم جاء بعد أن تخطى الطفل المسكين عمر الأربع سنوات، ولم يكتسب بعد أي مهارة من مهارات الطفولة المبكرة مقارنة بشقيقته التوأم.
اقتنع الوالدان أخيراً بحجم المشكلة، وأبلغهما الدكتور إيهاب بأن هذا الطفل يحتاج إلى تأهيل شامل من فريق عمل من المتخصصين في مجال تأهيل ذوي الإعاقات المركبة الصعبة. المشكلة الكبرى تكمن في ندرة هذه الكوادر في مصر، حيث لا يوجد سوى مؤسسة وحيدة يعمل بها فريق من تلك الكوادر النادرة المدربة تدريباً عالياً.
للأسف، لم تملك الأسرة المنكوبة إلا أن تعيد ترتيب أولوياتها وأوراقها للانتقال إلى القاهرة لتكون بالقرب من تلك المؤسسة للحصول على خدمات التأهيل الشامل والمكثف، في محاولة لتعويض ما فات خلال السنوات الأربع الماضية من عمر الطفل.
قصص أخرى: معاناة متعددة ونهايات حزينة تبرز الحاجة الملحة للتدخل
لا تتوقف يوميات الدكتور إيهاب عند هذه الحالة المؤثرة، بل يسرد قصصاً أخرى لا تقل ألماً، لتؤكد أن هذه المشكلات ليست حالات فردية، بل نمطاً يتكرر بين أطفال الحقن المجهري:
توائم الحرمان والأعباء المتضاعفة:
يروي الدكتور إيهاب قصة أم رزقت بعد ثماني سنوات من الحرمان والاشتياق إلى الأمومة بثلاث توائم بنات. لكن القدر لم يكتب لهن جميعاً حياة طبيعية؛ إحداهن تعاني من تأخر ذهني بسيط مع تأخر مهارات اللغة التعبيرية، والثانية تعاني من تأخر شامل، والثالثة مصابة بشلل دماغي رباعي مكتمل.
هذه الحالات المتعددة تضع عبئاً هائلاً على كاهل الأسرة، وتؤكد على ضرورة الاستعداد لمثل هذه الاحتمالات.
معاناة ما بعد سن اليأس ومسؤولية العمر:
حالة أخرى لسيدة رزقت بتوأم بعد سبعة عشر سنة من المحاولات المضنية، وبعد أن تقدم بها العمر. أحد التوأمين مصاب بقصور ذهني مقترن بالتوحد متوسط الشدة وغير ناطق.
هذا الوضع أجبر زوجها على الانتقال بمفرده إلى محافظة أخرى سعياً لمزيد من الرزق ليتمكن من تغطية نفقات تأهيل هذا الطفل، تاركاً الأم ذات السن المتقدم تتحمل كل المشاكل اليومية وحدها. هذه القصة تسلط الضوء على البعد الاجتماعي والاقتصادي لهذه المشكلات وتأثيرها المدمر على الأسر.
الوحيد والعنف: نهاية مأساوية لآمال كبيرة:
يذكر الدكتور إيهاب حالة أخرى لوالدين نجحا في الحصول على مولود واحد من الأجنة المتعددة التي تم تحضيرها.
ولكن بعد مضي السنوات الطوال، فوجئا بأن الطفل "معاق ذهنياً مقترناً بأعراض التوحد مع الغضب والعنف الشديد، ويقوم بضربهما -والله حدث بالفعل أمامي - بعد أن تقدم عمرهما، وضعفت قدرتهما معاً على مواجهة تقلباته المزاجية وتوجيه طاقاته الغضبية لهما حينما يتجزا عن فهمه، وتلبية طلباته فوراً!".
هذه القصة المروعة تختتم سلسلة من المآسي التي تبرز الحاجة الملحة للتعامل بجدية أكبر مع مضاعفات أطفال الحقن المجهري وتأثيرها على حياة الأسر.
إن هذه القصص ليست مجرد حكايات، بل هي نداءات استغاثة من أسر تعيش تحت وطأة مضاعفات الحقن المجهري غير المتوقعة، وتداعياتها على جودة حياتهم، مما يستدعي تدخلاً جذرياً.
مبادرة الدكتور إيهاب: نحو تخصص "حديثي الولادة ذوي الحقن المجهري" لسد فجوة الرعاية
من هذا المنطلق، وبعد أن تجمعت لديه "عشرات، إن لم تكن مئات القصص المؤلمة، والنهايات الحزينة"، يطلق الدكتور إيهاب رجاء مبادرة هامة وملحة تهدف إلى إحداث نقلة نوعية في رعاية هؤلاء الأطفال:
"أطلق مبادرة الدعوة إلى إيجاد كوادر من شباب أطباء الأطفال والوراثة والمخ وأعصاب الأطفال إلى تبني قيام تخصص دقيق لمتابعة ورعاية مواليد الحقن المجهري منذ الميلاد سعياً إلى الاكتشاف المبكر لهذه المضاعفات غير المتوقعة وغير المحسوبة عند ولادة هؤلاء الرضع، تخصص حديثي الولادة ذوي الحقن المجهري".
المبادرة الطموحة تسعى لتحقيق عدة أهداف محورية:
- إثارة وعي الوالدين بالمشاكل والمضاعفات المحتملة التي قد تواجه مواليد الحقن المجهري. فغالباً ما يكون الأهل غافلين عن هذه الاحتمالات، مما يزيد من صدمتهم عندما تظهر المشاكل.
- البحث عن سبل الوقاية من حدوث هذه المضاعفات قدر الإمكان. فالتدخل المبكر والتوعية السليمة يمكن أن يقللا من شدة المشكلات أو حتى يمنعا حدوث بعضها.
- لحد من تداعياتها على جودة حياة الأسر المعنية. فالدعم والتأهيل الشامل في المراحل المبكرة يمكن أن يحدث فارقاً كبيراً في قدرة الطفل على التكيف والاندماج، ويخفف من العبء الهائل على الأسر.
إنها دعوة لتخصص جديد يسد فجوة كبيرة في الرعاية الصحية، ويضمن متابعة شاملة لهؤلاء الأطفال منذ لحظة الميلاد، بهدف التدخل المبكر وتقديم الدعم اللازم. فما فات من وقت في حياة الأطفال يعني سنوات ضائعة من التأهيل والفرص.
هذه الأسر المنكوبة، التي تضطر لإعادة ترتيب أولوياتها والانتقال إلى القاهرة للحصول على التأهيل الشامل المكثف، تستحق نظاماً صحياً أكثر استجابة وفعالية، يضع نصب عينيه ليس فقط تحقيق الحمل، بل ضمان جودة حياة للمولود وسلامة الأسرة ككل.
إن مبادرة الدكتور إيهاب تمثل بصيص أمل في واقع مؤلم، وتدعو إلى تضافر الجهود لضمان مستقبل أفضل لأطفال الحقن المجهري.