الغرفة المزعجة بين الموت والحياة !
لم
تكد تمر بضعة دقائق من تسكين الألم ، وغفوة قصيرة بعد إعطائي مسكنا مخدرا للألم ، و
بعد نجاح قسطرة القلب التداخلية العلاجية بغرس دعاماتين بشرايين القلب المنهكة المرهقة
من عناء السنين الطوال ! حتى وجدتني أستيقظ على تلك النداءات الثلاث من سيدة لم أرى
وجهها في السرير الذي بجواري ، ويفصل بيننا ستار معتم لايفصح عن من يقبع خلفه .
ياسيد
…ياسيد …ياسيد …ماتنساش تفتح التليفزيون ساعة المسلسل … النهارده الحلقة الأخيرة ،
وعاوزاك تقول لي البطلة هاتعمل إيه مع حبيبها ؟!
ياسيد
…ياسيد … ياسيد يابحيري …إظهر ياسيد يابحيري ! إنت فين ياسيد ؟! إبنك محتاج لك ياسيد
! كان المنادي هذه المرة هو صوت أبي الراحل الحبيب ،والذي كان يحلو له تقليد صوت ،
وأداء البطل في النداء على أبيه الراحل ، وكان المسلسل هو الطريق الذي كان يذاع بعد
نشرة أخبار الخامسة في البرنامج العام ، وكان البطل هو الممثل القدير صلاح قابيل ، و دور شبح الأب الذي يظهر ، ويختفي الممثل القدير
أيضا محمد أباظة الذي كانت له بصمة صوتية مميزة في المسلسلات الأذاعية التي كنا نتابعها
على مدار شهر كامل " ثلاثون حلقة " ، وأبي ينادي في صباح اليوم التالي للحلقة
ياسيد … إظهر ياسيد يابحيري منذ أكثر من نصف قرن ؛ خمسٍ، وخمسين عاما وأبي الراحل الحبيب
يتقمص المنادي لينادي أباه الراحل بنفس حرارة الشوق ، واللهفة على الغائب الذي لايرد
النداء ، ولايعود أبدا .
ها
قد قضى الجميع نحبهم ، ومضوا بلاعودة ، ورحل بعدهم والدي الحبيب منذ إثنين ، وثلاثين
عاما ، وكأنه بالأمس القريب ، ووجدتني أهتف بصوت داخلي لايسمعه سواي حرصا على راحة
جيراني في غرفة " العناية المركزة لمرضى قسطرة القلب "
ياسيد ياسيد أنا محتاج لك يا سيد ! إظهر ولو لحظة لإبنك
المشتاق ياسيد ، ووجدت دموعي تنسال على وجنتي حارة تهديئ من إحساسي ببرودة الغرفة ،
فقد تركونا بغلالة طبية رقيقة تلامس الأجساد العارية الضعيفة بغير عازل يمنع تسرب البرودة
التي قد تنذر في لحظة ما ببرودة الموت تتسلل مع خطوات ملك الموت !
حينما
شعرت بسخونة الدموع الشحيحة على وجنتي ، وعلى الوسادة تحت رأسي أدركت لحظتها انني لا
أزال حيا ، ولم ألحق بعد بركب الراحلين !
بينما
السيدة تريز جارتي المباشرة على يمين سريري تنادي على زوجها الموقر السيد " سيد
" ، وبينما أجراس أجهزة المونيتور تنعق
طول الوقت بتلاحق سريع متعاقب من سرير إلى سرير في تلك الغرفة الباردة الكئيبة ، يتلاحق
على بصري شريط الذكريات بوجوه من دخلوا هذه الغرفة ، ولم يخرجوا منها أبدا ، ولم يعودوا
مثل الشبح القابع في قلب المسلسل القديم
" سيد البحيري " …رأيت وجه أبي الحبيب مُقَلِدَ النداء العجيب بلا
مجيب في اليوم الأخير قبل وفاته حينما ذهبت أودعه أنا ، وأمي ، وقد انتفض جسده المسترخي
- في إستسلام من ينتظر الموت بين لحظة ، وأخرى حينما يأذن الخالق " يا أيها النفس
المطمئنة إرجعي إلى ربك راضية مرضية " - ثلاثة إنتفاضات ، وظهرت على قسمات وجهه
تغيرات تكاد تنذر باللحظة الفارقة ، وبالفعل توفي إلى رحمة الله في مساء ذلك اليوم
المشهود . رأيت إحدى خالاتي وهي تتمتم بكلمات تنم عن غضبها على أصغر أبنائها فانفعلت
إنفعالا حادا شديدا أدى إلى نوبة إغماء وحين تركتها بضعة من الوقت لإداء مهمة ما ،
وعدت اليها لأفاجأ بسريرها خالٍ ، وأبلغتني الممرضات " البقاء لله " ، فقلت
لهم على الفور أريد إلقاء النظرة الأخيرة فإذا بهم ببرود من ألف ذلك الموقف مرات تلو
مرات إنزل إلى ثلاجة الموتى بالأسفل ، ولم أستطع تحمل الصدمة فقد تحدثت اليها من ساعتين
زمن فكيف أراها مسجاة في درج بارد داخل مايسمونه في المستشفيات " ثلاجة الموتى
" حتى تتم جميع الإجراءات سابقة الخروج إلى المقبرة ، وأطل وجه والدي مرة أخرى
حينما أخرجوه من الثلاجة لتبدأ عملية الغسل ، والتكفين أستعدادا للدفن بعيدا في مدافن
الأسرة بطريق الفيوم " الطريق مرة أخرى
حيث لايجيب، ولايعود أبدا سيد إلى يوم القيامة !
ومرة
أخري حين عالجت الموت حماتي " والدة زوجتي " ، وغرغرت ، وانهارت زوجتي ، فطلبت منها التماسك
، والثبات حتى تستطيع تلقينها الشهادة ، وركضت مسرعا حتى لا أشاهد تلك اللحظة المؤلمة
بالشهقات الأخيرة ، ومع ذلك فقد عادت الحياة لحماتي العزيزة بعد التدليك المكثف للقلب
، وإمدادها بالأكسجين ، ولكنها ظلت حبيسة تلك الغرفة ثمانية أيام ، ونحن بين الخوف
، والرجاء حتى أتى أمر الله ولم تخرج من الغرفة إلا كسابقيها من الراحلين الذين لايلبون
نداء العودة من الطريق المجهول !
وبينما
السيدة تريز مستمرة في النداء الزاعق المستمر على السادة أعضاء فريق التمريض المحترمين
الذين لم يضجروا لحظة من ندائاتها المتلاحقة الزاعقة خلف كل الأجراس الناعقة ، بل كنت
أنا شخصيا أتطوع بالنداء بدلا منها حين لاتسعفها نبرة صوتها لتصل إليهم ، وهم يتحدثون
، ويتضاحكون ، ويتصايحون بأصوات عالية ، وكأنهم في واد آخر غير عابئين بآلام المرضي
المقيدين بأسلاك أجهزة المونيتور كالأسرى في الميدان لايستطيعون حركة ، ولا فرارا
! إذا بها تصب الغضب على ذكر السيد زوجها الموقر " سيد " إخص عليك يا سيد
مش كنت تريحني وتأخذ لي غرفة مستقلة لوحدي بدل الهم إللي انا فيه دلوقت …إففففففف
…كده برضه ياسيد أهون عليك تسيبني كده ياسيد !
أسمعها
تطلب من خلال المحمول أيوه يا سيد …البطلة عملت إيه ياسيد ؟! إيه ماتت ! إزاي ؟! إنتحرت
؟! أهي ماتت ، واستريحت م القرف إللي ف الدنيا ، ياريتني أموت ، واستريح زيها ! بأقول
لك إيه ياسيد ماتيجي تروحني من هنا قبل ماهم يروحوني باي خالص ياسيد !
بعد
دقائق تأتيني البشارة حالتك مستقرة …الدكتور المعالج سمح لك بالخروج الليلة ، وإذا
بي أهتف باسما بركاتك يا سيد .