recent
أخر الأخبار

منة ومتلازمة ارلن | قصة واقعية

النظارة الملونة وإنهاء سنوات مع الصرع والألم

أخر تحديث 16 يونيو 2025
ليس كل ما يبدو عصبيًا أو نفسيًا يجد تفسيره في التحاليل أو الأشعة، فبعض الحالات تحتاج عدسة مختلفة لرؤية الحقيقة، تمامًا كما حدث مع "منة"، الطفلة الرقيقة التي عاشت طفولتها تحت ظلال النوبات الصرعية، والعلاجات المتكررة، والتحاليل، والتردد المستمر على المستشفيات، دون أن تهدأ تلك النوبات التي هددت استقرارها وحياتها الأسرية.
لكن المفاجأة لم تكن في دواء جديد أو علاج متطور، بل في عدسات ملوّنة صنعت خصيصًا لها بناءً على تشخيص حالة نادرة تُعرف باسم متلازمة إرلن Irlen Syndrome، وهي اضطراب عصبي بصري غير مكتشف على نطاق واسع، يُسبب حساسية مفرطة تجاه الضوء والوهج، وقد يكون وراء العديد من المشكلات السلوكية والذهنية والصرعية غير المُفسَّرة طبيًا.

صورة لفتاة مصرية صغيرة ترتدي نظارة بعدسات ملونة أثناء فحص متلازمة إرلن بمساعدة طبيبة ترتدي الحجاب داخل عيادة أنيقة ومضاءة طبيعيًا

في هذا المقال، نستعرض رحلة منة بتفاصيلها الإنسانية والعلمية، ونُسلط الضوء على ماهية متلازمة إرلن، علاماتها، طرق التشخيص، ودور العدسات المُخصصة في تغيير حياة المرضى وعائلاتهم. هذه القصة ليست حالة فردية، بل نافذة تُفتح نحو أمل جديد لفئة كبيرة من الأطفال والكبار الذين يعانون في صمت من أعراض غير مفسَّرة طبيًا.

البداية: طفلة تعاني من نوبات لا تستجيب للعلاج

في عمر لم يتجاوز العامين، دخلت "منة" – الطفلة الجميلة الوديعة – رحلة صحية شاقة لم يخترها أحد. كانت البداية بعد إصابتها بحمى دماغية حادة، استلزمت دخولها قسم العزل في مستشفى الحميات لفترة طويلة، وخرجت منها وهي تحمل عبءًا ثقيلًا من النوبات الصرعية المتكررة التي بدت عصيّة على جميع الأدوية التقليدية.
مرت الأيام، وبدأت رحلة العلاج الطويلة والممتدة بين الأطباء والمستشفيات، حيث كانت النوبات تتراجع لفترة ثم تعود بقوة وشراسة، كأنها ترفض الانصياع لأي نوع من أنواع العلاج. واصل الأطباء محاولاتهم لتعديل الجرعات وتغيير الأدوية، وكلما زاد وزن "منة"، كانت الجرعات تُراجع بعناية، ولكن النتائج لم تكن مُرضية على المدى الطويل.
ما زاد من صعوبة الموقف أن النوبات لم تكن تحدث فقط في أوقات آمنة أو تحت إشراف، بل بدأت تظهر في أماكن حرجة مثل الحمام أو المطبخ، ما أثار قلقًا بالغًا لدى الأسرة. وعلى الرغم من بُعد المسافة بين منزل الأسرة في محافظة نائية والطبيب المعالج، لم ينقطع التواصل أبدًا؛ زيارات دورية، اتصالات مستمرة، وحرص من الأم الفاضلة على رصد كل تغير يطرأ على حالة طفلتها بدقة ووعي نادر.
لكن مع تفاقم الأعراض وازدياد عدد النوبات، بدأت الشكوك تتسلل: هل هناك سبب آخر خفي لم تُسلّط عليه الأضواء بعد؟ هل يمكن أن تكون "منة" تعاني من اضطراب آخر يتخفّى خلف ستار الصرع؟
كان لا بد من إعادة النظر خارج الصندوق الطبي التقليدي، والبحث عن خيط مختلف… وهنا بدأت تتضح ملامح الإجابة المفاجئة.

الاشتباه بمتلازمة إرلن: بداية كشف الحقيقة

مع تصاعد حدة النوبات وتكرارها في أماكن خطرة، كان من الواضح أن هناك شيئًا غير مألوف يُعيق استجابة "منة" للعلاج، لكن المفاجأة لم تأتِ من فحصٍ طبي تقليدي، بل من ملاحظة إنسانية ذكية قد يغفل عنها الكثيرون.
أثناء إحدى الزيارات الروتينية، لفت انتباه الطبيب المعالج أمر بدا بسيطًا في ظاهره: والد منة كان دائمًا يرتدي نظارة شمسية داكنة داخل الأماكن المغلقة. أمر كهذا قد يبدو سلوكًا عاديًا أو حتى عادة شخصية، لكنه عند من يتابع دراسات متلازمة إرلن، يُعتبر مؤشرًا مهمًا.
تُعرف متلازمة إرلن بأنها نوع من الحساسية البصرية للضوء والوميض، ويمكن أن تؤدي إلى أعراض مشابهة جدًا لنوبات الصرع، مثل الصداع، التشنجات، الارتباك، واضطرابات التركيز. الأدهى من ذلك، أن هذه المتلازمة لا تظهر في التحاليل أو الأشعة التقليدية، وغالبًا ما تمر دون تشخيص، ويُعامل المريض على أنه مصاب باضطرابات عصبية أخرى.
ما جعل الطبيب يربط بين الحالة والأب، هو معرفته بخطورة تجاهل أعراض متلازمة إرلن، خاصة وأنها تسبب نوبات صرعية مقاومة للأدوية لدى بعض المصابين بها. ومن هنا، طُرحت فرضية جديدة:
ماذا لو كانت "منة" لا تعاني فقط من صرع دماغي عضوي، بل أيضًا من حساسية عصبية ضوئية غير مكتشفة؟
لم يكن الأمر يحتمل التأجيل، فتم تحويل الطفلة – وأسرتها – إلى الأستاذة رشا أنور، خبيرة تشخيص متلازمة إرلن ومؤسسة فرع معهد إرلن بمصر، المعتمد من المعهد الرئيسي في الولايات المتحدة الأمريكية.
وجاءت النتائج صادمة ومُدهشة في آنٍ واحد…

المفاجأة: الأسرة كلها مصابة بمتلازمة إرلن

حين خضعت "منة" وأسرتها لفحص تشخيص متلازمة إرلن على يد الأستاذة رشا أنور، لم يكن أحد يتوقع حجم المفاجأة التي كشفتها العدسات التشخيصية الملونة.
لم تكن "منة" وحدها المصابة، بل اتضح أن والدتها وشقيقها الأكبر أيضًا يحملون أعراض متلازمة إرلن، وأن الأعراض التي اعتادوا اعتبارها عادية – مثل الصداع المتكرر، التوتر عند التعرض للضوء الساطع، أو صعوبة التركيز – لم تكن مجرد أعراض عابرة، بل مؤشرات قوية على اضطراب عصبي بصري ظلّ صامتًا لسنوات.
والأكثر إثارة، أن الأب – الذي كان يُعتقد أنه يعاني من هذه المتلازمة بسبب ارتدائه المستمر للنظارات الداكنة – لم يكن مصابًا، لكنه ربما كان، من حيث لا يدري، يوجّه الأنظار نحو التشخيص الصحيح لبنته دون قصد.
في حالة "منة"، كان كل ما احتاجته للنجاة من نوبات الصرع المؤلمة هو عدسة مُخصصة تُخفف من تأثير الوهج الضوئي على دماغها. وبفضل الفحص، تم تحديد اللون الدقيق المناسب لها، وتم إرسال مواصفات العدسة إلى الولايات المتحدة لتُصنع خصيصًا لها ضمن معايير "معهد إرلن العالمي".
ومع ارتداء العدسات للمرة الأولى، بدأت الفروق تظهر بشكل فوري: تراجع في حدة النوبات، هدوء نفسي، قدرة أكبر على التركيز، وعودة الأمل إلى وجوه الأسرة.
أما شقيقها الأكبر، فوصف تأثير العدسة الملونة التي خُصصت له بأنها تُشبه "إحساس جلسة مساج داخل الرأس"، في تعبير بسيط لكنه عميق يدل على مدى الراحة الفورية التي شعر بها.
المفاجأة لم تكن فقط في التشخيص، بل في تحوّل النظرة للأسرة ككل: لم تعد "منة" حالة منفصلة تعاني، بل أصبحت جزءًا من نمط وراثي خفي ظهر أخيرًا للنور.

متلازمة إرلن: ما هي؟ أعراضها؟ وكيف تُشخّص؟

متلازمة إرلن (Irlen Syndrome)، والتي تُعرف أحيانًا باسم "حساسية الوميض الضوئي" أو "الإجهاد البصري"، هي اضطراب عصبي بصري يؤثر على طريقة معالجة الدماغ للمحفزات البصرية، وخاصة الألوان، والتباين، والضوء الساطع أو المتقطع.
ورغم أنها ليست حالة شائعة في التشخيصات التقليدية، إلا أنها تؤثر على ملايين الأشخاص حول العالم، دون أن يُدركوا أن ما يشعرون به له اسم، وله علاج.

أعراض متلازمة إرلن
تختلف الأعراض من شخص لآخر، ولكن الأكثر شيوعًا تشمل:
  • صداع متكرر عند التعرض للضوء، خاصة ضوء النيون أو شاشات الكمبيوتر والموبايل.
  • انزعاج شديد من الضوء الساطع أو المتقطع (مثل ضوء السيارات ليلًا أو الوميض).
  • ضعف في التركيز والانتباه، خاصة أثناء القراءة أو تحت الإضاءة الصناعية.
  • اضطرابات في النوم أو تقلبات مزاجية غير مبررة.
  • نوبات تشبه الصرع، لا تستجيب للعلاج، خاصة في الحالات الشديدة.
  • الشعور بحركة الأحرف أثناء القراءة أو رؤية "ظل" للكلمات.
  • في الأطفال، قد تظهر الأعراض في شكل تأخر دراسي، فرط حركة، أو حتى أعراض تشبه التوحد أو الصرع دون سبب عضوي واضح.
كيف تُشخّص متلازمة إرلن؟
لا تُشخّص هذه المتلازمة عبر التحاليل الطبية التقليدية أو الأشعة. بل تحتاج إلى تقييم بصري عصبي متخصص باستخدام مرشحات لونية تشخيصية يقوم بها متخصصون مدربون ضمن منهجية معهد إرلن الدولي.

لفحص نفسك اون لاين يمكنك زيارة هذا الرابط 👇


أما عن العلاج فهو ببساطة هو ارتداء عدسات ملوّنة مخصصة (وليس نظارات طبية تقليدية)، تُخفف من حساسية الضوء، وتُعيد توازن إدراك الدماغ للمحفزات البصرية. وهي تُصنع خصيصًا لكل شخص حسب اختباره الشخصي.

حين يغيّر اللون الحياة: دروس من قصة منة

تأتي قصة "منة" لتُثبت أن الشفاء قد يكون أحيانًا في التفاصيل التي لا يراها أحد. عدسة واحدة بلون معين كانت كفيلة بأن تُغيّر حياة فتاة وأسرتها، بعد سنوات من الألم، التشخيصات المتكررة، والبحث المستمر عن إجابة.
ما حدث مع منة ليس معجزة خارقة، بل نتيجة لدمج العلم بالملاحظة، والرحمة بالمعرفة، والتخصص بالشغف الحقيقي في فهم الأعراض غير التقليدية. فالدكتور إيهاب رجاء، بخبرته ووعيه النادر، لم يتعامل مع الحالة كرقم أو وصفة دوائية، بل كإنسان يبحث عن الخيط المفقود وراء معاناة طويلة.
ومن خلال التعاون مع الأستاذة رشا أنور، مؤسسة فرع معهد إرلن مصر، تمكّن الفريق من تشخيص الحالة بشكل دقيق، ليس فقط لمنة، بل لعائلتها أيضًا، مما أعاد التوازن والاستقرار إلى بيت كان يعيش على وقع النوبات والقلق.
اليوم، "منة" ترتدي نظارتها الملونة، وتعيش حياتها بروح طفلة عادت إليها الراحة، واستعادت أسرتها أملًا لم تكن تعلم أنه قريب منها كل هذا القرب.

ماذا تعلمنا من قصة منة؟
- أن بعض الحالات الطبية تستحق نظرة خارج الصندوق.
- أن الحساسية الضوئية ليست رفاهية أو وهمًا نفسيًا، بل قد تكون أصل المشكلة.
- أن العلاج لا يجب أن يكون دائمًا دواءً، بل أحيانًا عدسة بلون مختلف تغيّر كل شيء.
- أن الاستماع الدقيق للأهل، وربط الأعراض غير التقليدية، قد يُنقذ انسان.
google-playkhamsatmostaqltradent