المسح القومي لانتشار اضطراب التوحد والإعاقات بين الأطفال في مصر
أخر تحديث 18 يونيو 2025
في سابقة هي الأولى من نوعها، شهدت مصر إعلان نتائج "المسح القومي لمعدل انتشار اضطراب التوحد والإعاقات لدى الأطفال من عمر عام إلى 12 عامًا"، والذي يُعد خطوة محورية نحو فهم الواقع الصحي والتنموي لهذه الفئة الهامة من أبناء المجتمع المصري.
وقد جاء هذا المسح تحت رعاية أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا والمركز القومي للبحوث، وبدعم من وزارة الصحة والسكان والمركز الديموغرافي، ليُسجل لحظة تاريخية في مسار دعم وتمكين الأطفال ذوي الإعاقات، من خلال تقديم أول دراسة موثقة بالأرقام حول نسب انتشار اضطراب طيف التوحد والإعاقات المختلفة في مصر.
شارك الأستاذ الدكتور إيهاب رجاء فى هذا الحدث التاريخي بصفته أستاذ الوراثة الإكلينيكية بقسم بحوث الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة بالمركز القومي للبحوث، والعضو المناوب في المبادرة.
كما القى كلمة استعرض خلالها التحديات العلمية والعملية التي نواجهها في التشخيص، والتنبؤ، وتقديم الخدمات للأطفال المصابين بالتوحد، كما قارن بين ما توصلنا إليه في مصر وما تم إنجازه في دول أخرى كالسعودية وقطر والبحرين.
إن أهمية هذا المسح لا تكمن فقط في توثيق الأرقام، بل في كونه خارطة طريق للتشخيص المبكر، ووضع خطط التدخل الفعّال، وتوفير الدعم الأسري والمجتمعي، بما يتماشى مع أفضل الممارسات العالمية.
نتائج المسح القومي: أرقام صادمة وتحديات حقيقية
كشفت نتائج "المسح القومي لمعدل انتشار اضطراب التوحد والإعاقات بين الأطفال في مصر" عن أرقام تستحق الوقوف أمامها بجدية. فقد شمل المسح 41,639 طفلًا من ثماني محافظات تمثل مختلف المناطق الجغرافية للدولة، في الفئة العمرية من عام إلى 12 عامًا. وكانت النتائج كالتالي:
- معدل انتشار اضطراب طيف التوحد بلغ 1.07% من الأطفال المشمولين في العينة، أي ما يعادل أكثر من مليون طفل على مستوى الجمهورية.
- الإعاقات التطورية (ذهنية، عقلية، تأخر لغوي، صعوبات تعلم): 8.9%
- الإعاقات البدنية: 2.4%
- النوبات الصرعية: 2.2%
- الإعاقات البصرية: 0.5%
- الإعاقات السمعية: 0.3%
هذا الرقم المفزع لانتشار اضطراب طيف التوحد وحده يسلط الضوء على الحاجة الماسة إلى برامج تدخل مبكر، وتدريب متخصص، ودعم مجتمعي وأسري متكامل. فهو لا يعني فقط وجود تحدٍ صحي، بل أيضًا تحدٍ تربوي واقتصادي واجتماعي يحتاج لتكاتف كافة المؤسسات المعنية.
أظهرت البيانات وجود قصور شديد في الخدمات المقدمة للمصابين بالتوحد، مثل تأخر تطور المهارات الحركية الكبرى كالمشي والوقوف حتى سن 7 إلى 8 سنوات، ومشكلات في التواصل الاجتماعي واللغوي منذ سن مبكرة (3 إلى 4 سنوات)، ما يؤكد الحاجة إلى التوسع في خدمات التشخيص المبكر والتأهيل.
وقد بيّنت الدراسة، التي نُفذت على أربع مراحل دقيقة، أن أحد أكبر التحديات هو غياب قاعدة بيانات وطنية موثوقة لحصر المصابين، وهو ما نجحت هذه المبادرة الوطنية في تأسيسه لأول مرة.
خطوات تنفيذ الدراسة: من الميدان إلى التحليل المعمق
تم تنفيذ "المسح القومي لمعدل انتشار اضطراب التوحد والإعاقات لدى الأطفال بمصر" وفق منهج علمي دقيق، شمل أربع مراحل متكاملة جمعت بين الجهد الميداني والخبرة البحثية المتقدمة.
وقد تعاون في تنفيذ هذه الدراسة نخبة من الباحثين والخبراء من المركز القومي للبحوث، والمركز الديموغرافي، ووزارة الصحة والسكان، ومقدمو الخدمات الصحية بمراكز الرعاية الأساسية.
المرحلة الأولى:
جمع البيانات الاجتماعية والديموغرافية من خلال مقابلات مع الأسر، وتوثيق الحالة الاجتماعية والاقتصادية والبيئية للأطفال، إضافة إلى تحويل الأطفال المشتبه بإصابتهم بالإعاقات المختلفة إلى الوحدات الصحية المختصة.
المرحلة الثانية:
الفحص المبدئي للأطفال باستخدام أدوات قياسية على يد ممرضات تم تدريبهن خصيصًا في مراكز الرعاية الصحية. وتم استخدام أدوات فحص معتمدة للكشف عن مظاهر اضطراب النمو.
المرحلة الثالثة:
التشخيص المتخصص من خلال استشاريين وخبراء من المركز القومي للبحوث، باستخدام الدليل التشخيصي والإحصائي الخامس (DSM-5) ومقياس تصنيف التوحد في الطفولة (CARS)، لضمان دقة التشخيص وتمييز الحالات الحقيقية عن المشابهة.
المرحلة الرابعة:
تحليل معمق للقدرات المعرفية والسلوكية والتقييم البيئي والبيولوجي، شمل:
- فحص الشعر لتحليل تراكم المعادن الثقيلة مثل الرصاص، الزئبق، الكادميوم، الزرنيخ والألومنيوم.
- دراسة العلاقة بين البكتيريا المعوية (الميكروبيوتا) وشدة أعراض التوحد.
- تقييم المهارات اللغوية، الحركية، والسلوك الاجتماعي للأطفال المشخصين بالتوحد.
- مقارنة النتائج بعينة من الأطفال الأصحاء من نفس البيئة المعيشية.
هذه المنهجية متعددة الأبعاد أعطت للدراسة مصداقية علمية قوية، وأتاحت استخلاص مؤشرات دقيقة عن حجم المشكلة وعلاقتها بالعوامل البيئية والاقتصادية والاجتماعية المحيطة.
كلمة دكتور إيهاب: التحديات الحقيقية التي نواجهها في ملف التوحد
قال الأستاذ الدكتور إيهاب رجاء، أستاذ الوراثة الإكلينيكية واستشاري أمراض المخ والأعصاب بالمركز القومي للبحوث، خلال كلمته في مؤتمر إعلان نتائج المسح القومي لانتشار اضطراب التوحد والإعاقات في مصر
إن المسح يُعد نقلة نوعية غير مسبوقة في التعامل مع ملف التوحد على المستوى الوطني، حيث أتاح لنا لأول مرة بناء قاعدة بيانات علمية دقيقة يمكن الاعتماد عليها في التخطيط والتدخل.
وأشار د. إيهاب رجاء إلى أن مصر كانت تفتقر إلى بيانات دقيقة حول حجم الإصابات باضطراب طيف التوحد، على عكس بعض دول الخليج العربي مثل السعودية وقطر والبحرين، والتي أجرت دراسة موسعة عام 2018 أظهرت وجود أكثر من 187 ألف حالة موثقة، وهو رقم كبير نسبيًا مقارنة بعدد السكان.
ونوّه إلى أن ضعف الإمكانيات المادية كان يمثل عائقًا أمام تنفيذ مسح مماثل في مصر، إلا أن التعاون المثمر بين المركز القومي للبحوث ووزارة الصحة وأكاديمية البحث العلمي والمركز الديموغرافي، مكّننا من الوصول إلى دراسة ميدانية موثقة بالأرقام تُعد الأولى من نوعها.
وأكد د. إيهاب رجاء أن التحدي لا يتوقف عند التشخيص، بل يمتد إلى غياب العلاج القاطع لاضطراب طيف التوحد، مشيرًا إلى أن تقريرًا طبيًا صدر عام 2021 خلص إلى أنه لا يوجد علاج دوائي نهائي للتوحد حتى الآن
وإنما تقتصر التدخلات على تحسين الأعراض ومهارات التواصل واللغة والسلوك، ويظل التشخيص حتى اليوم إكلينيكيًا فقط، دون قدرة على تحديد السبب الجذري.
وأوضح أن العوامل الجينية والبيئية المتداخلة تجعل من الصعب فهم الآليات الدقيقة التي تؤدي إلى الإصابة، ما يشكّل تحديًا كبيرًا أمام الأطباء والباحثين على حد سواء.
كما تطرّق د. إيهاب رجاء إلى تحدٍ آخر يتمثل في صعوبة النشر العلمي في ظل الظروف الاقتصادية العالمية، لافتًا إلى أن معظم شباب الباحثين لا يستطيعون تحمّل تكاليف النشر الدولي، فضلًا عن ضعف الروابط العلمية مع الجامعات والمؤسسات الأجنبية، ونقص التعاون بين المراكز البحثية والكليات النظرية التي تُخرّج الأخصائيين المعنيين بحالات التوحد.
خاتمة: خارطة طريق لمستقبل أطفالنا… تبدأ من الوعي وتنتهي بالفعل
أكد الأستاذ الدكتور إيهاب رجاء، أستاذ الوراثة الإكلينيكية واستشاري المخ والأعصاب بالمركز القومي للبحوث، أن نتائج المسح القومي لانتشار اضطراب التوحد والإعاقات لدى الأطفال تمثل نقطة انطلاق حقيقية نحو بناء منظومة متكاملة تقوم على التشخيص المبكر، والتدخل العلمي، وتوفير الدعم الأسري والمجتمعي.
وأوضح أن وجود أكثر من مليون طفل مصاب باضطراب طيف التوحد في مصر، وفق الدراسة، ليس مجرد رقم، بل هو نداء عاجل للتحرك. فهؤلاء الأطفال يحتاجون إلى مسارات تعليمية خاصة، وبرامج تأهيل مكلفة، وأخصائيين مدرّبين، ومراكز متخصصة قادرة على تقديم الدعم النفسي والتربوي.
وناشد د. إيهاب الجهات المعنية –وفي مقدمتها وزارات الصحة، والتعليم، والتضامن الاجتماعي– أن تعمل معًا تحت مظلة استراتيجية وطنية واضحة المعالم، تُلزم الجهات المعنية بوضع برامج مستدامة للتشخيص والتدريب والدعم، مع إنشاء سجل قومي للإعاقات، يُحدث بانتظام ويخدم الباحثين وصناع السياسات.
كما وجه رسالة إلى الأسر قائلاً:
"أنتم لستم وحدكم. التشخيص المبكر هو الأمل، وكل يوم تأخير يعني تأخرًا في القدرة على منح طفلك فرصة لحياة أفضل. اطرقوا أبواب الدعم، وشاركونا الرحلة نحو فهم هذه الحالات المعقدة، وتقديم أفضل ما لدينا من علم وإنسانية."
وختم د. إيهاب رجاء كلمته بالتأكيد على أن هذا المسح ليس نهاية المطاف، بل هو بداية حقيقية لتغيير جذري في نظرتنا كدولة ومجتمع إلى الأطفال ذوي الإعاقات، وضرورة الاستثمار فيهم بوصفهم جزءًا أصيلًا من طاقات هذا الوطن، لا تحدهم الإعاقة بل تحفزنا على العمل من أجلهم.